سورة الأحقاف - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة.. قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه. والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول سبقته الرسل، أوحي إليه بالقرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب. والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله. ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجاً أساسياً، وظل يتكئ عليها كذلك في سورة المدنية كما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء.. هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط؛ فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان.
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل؛ وتوقع فيها على كل وتر، وتعرضها في مجالات شتى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله- لا قضية البشر وحدهم- فتذكر طرفاً من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه. وتقيم من الفطرة الصادقة شاهداً كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهداً. سواء بسواء.
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة. كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة. وتجعل من السماوات والأرض كتاباً ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء.
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع.
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين: حا. ميم. كما بدأت السور الست قبلها. تليهما الإشارة إلى كتاب القرآن والوحي به من عند الله: {تنزيل الكتاب من العزيز الحكيم}.. وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون، وقيامه على الحق، وعلى التقدير والتدبير: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى}.. فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون}.
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئاً بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون، ولا يستند إلى حق من القول، ولا مأثور من العلم: {قل: أرأيتم ما تدعون من دون الله؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين}.
ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب. ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب!
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولهم له: {هذا سحر مبين}.. وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه. ويلقن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة، النابع من مخافة الله وتقواه، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة: {قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً. هو أعلم بما تفيضون فيه. كفى به شهيداً بيني وبينكم، وهو الغفور الرحيم. قل: ما كنت بدعاً من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ، وما أنا إلا نذير مبين}.. ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى- عليه السلام-: {فآمن واستكبرتم}.. ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}..
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الاصرار، وهم يقولون عن المؤمنين: {لو كان خيراً ما سبقونا إليه}.. ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم!}.
ويشير إلى كتاب موسى من قبله، وإلى تصديق هذا القرآن له، وإلى وظيفته ومهمته: {لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}..
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق: {إن الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون}..
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية: المستقيمة والمنحرفة، في مواجهة قضية العقيدة. ويبدأ معهما من النشأة الأولى، وهما في أحضان والديهم. ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار. فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه، راغب في الوفاء بواجب الشكر، تائب ضارع مستسلم منيب: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}. وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه، وهو جاحد منكر للآخرة، وهما به ضيقان متعبان: {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم الجن والإنس، إنهم كانوا خاسرين} ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون} والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد، عندما كذبوا بالنذير.
ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم، التي توقعوا فيها الري والحياة؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا: هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزي القوم المجرمين}.. ويلمس قلوبهم بهذا المصرع، وهو يذكرهم بأن عاداً كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة: {ولقد مكناهم فيما إن مكنا كم فيه، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. إذ كانوا يجحدون بآيات الله، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم، وظهور إفكهم وافترائهم. لعلهم يتأثرون ويرجعون..
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن، حين صرفهم الله لاستماعه، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة، والشهادة له بأنه الحق: {مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان: {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء، أولئك في ضلال مبين} وتتضمن مقاله النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه كان على كل شيء قدير} وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار، فيقرون بما كانوا ينكرون، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين!
وتختم السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب، فإنما هو أجل قصير يمهلونه، ثم يأتيهم العذاب والهلاك: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون؟} والآن نأخذ في تفصيل هذه الأشواط..
{حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، والذين كفروا عما أنذروا معرضون}..
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده. كتاب هذا الكون الذي تراه العيون، وتقرؤه القلوب.
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير. فتنزيل الكتاب {من الله العزيز الحكيم} هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة.
وخلق السماوات والأرض وما بينهما متلبس بالحق: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق}.. وبالتقدير الدقيق: {وأجل مسمى} تتحقق فيه حكمة الله من خلقه، ويتم فيه ما قدره له من غاية.
وكلا الكتابين مفتوح، معروض على الأسماع والأنظار، ينطق بقدرة الله، ويشهد بحكمته، ويشي بتدبيره وتقديره، ويدل كتاب الكون على صدق الكتاب المتلو، وما فيه من إنذار وتبشير.. {والذين كفروا عما أنذروا معرضون}.. وهذا هو العجب المستنكر في ظل تلك الإشارة إلى الكتاب المنزل والكتاب المنظور!
والكتاب المنزل المتلو يقرر أن الله واحد لا يتعدد، وأنه رب كل شيء، بما أنه خالق كل شيء، ومدبر كل شيء، ومقدر كل شيء. وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها؛ فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحداينة الصانع المقدر المدبر، الذي يصنع على علم، ويبدع على معرفة، وطابع الصنعة واحد في كل ما يصنع وما يبدع. فأنى يتخذ الناس آلهة من دونه؟ وماذا صنع هؤلاء الآلهة وماذا أبدعوا؟ وهذا هو الكون قائماً معروضاً على الأنظار والقلوب؛ فماذا لهم فيه؟ وأي قسم من أقسامه أنشأوه؟
{قل: أرأيتم ما تدعون من دون الله؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم، إن كنتم صادقين}..
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسلوله، صلى الله عليه وسلم، ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح. الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة- إلا مراء ومحالاً- والذي يخاطب الفطرة بمنطقها، بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية، يصعب التغلب عليها ومغالطتها.
{أروني ماذا خلقوا من الأرض؟}..
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات- سواء كانت حجراً أم شجراً أم جناً أم ملائكة أم غيرها- قد خلقت من الأرض شيئاً، أو خلقت في الأرض شيئاً. إن منطق الفطرة. منطق الواقع. يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل.
{أم لهم شرك في السماوات؟}..
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها. ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق، والشعور بوحدانيته؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات.. والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب البشر؛ ومن يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب.
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد. فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل. يأخذ عليها الطريق، فيطالبها الحجة والدليل؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير:
{ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم، إن كنتم صادقين}.
فإما كتاب من عند الله صادق. وإما بقية من علم مستيقن ثابت. وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة، أو يقول بأن لها في الأرض خلقاً أو في السماوات شركاً! وليس هنالك من علم، ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت.
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون. وهي شهادة حاسمة جازمة. ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة. ويعلمهم منهج البحث الصحيح. في آية واحدة قليلة الكلمات، واسعة المدى، قوية الإيقاع، حاسمة الدليل.
ثم يأخذ بهم إلى نظرة موضوعية في حقيقة هذه الآلهة المدعاة، مندداً بضلالهم في اتخاذها، وهي لا تستجيب لهم، ولا تشعر بدعائهم في الدنيا؛ ثم هي تخاصمهم يوم القيامة، وتنكر دعواهم في عبادتها:
{ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهم عن دعائهم غافلون؟ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين}..
وقد كان بعضهم يتخذ الأصنام آلهة. إما لذاتها وإما باعتبارها تماثيل للملائكة. وبعضهم يتخذ الأشجار، وبعضهم يتخذ الملائكة مباشرة أو الشيطان.. وكلها لا تستجيب لداعيها أصلاً. أو لا تستجيب له استجابة نافعة. فالأحجار والأشجار لا تستجيب. والملائكة لا يستجيبون للمشركين. والشياطين لا تستجيب إلا بالوسوسة والإضلال. ثم إذا كان يوم القيامة وحشر الناس إلى ربهم، تبرأ هؤلاء وهؤلاء من عبادهم الضالين. حتى الشيطان كما جاء في سورة أخرى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي. فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ. إني كفرت بما أشركتمون من قبل. إن الظالمين لهم عذاب أليم} وهكذا يقفهم القرآن وجهاً لوجه أمام حقيقة دعواهم ومآلها في الدنيا والآخرة. بعدما وقفهم أمام الحقيقة الكونية التي تنكر هذه الدعوى وترفضها. وفي كلتا الحالتين تبرز الحقيقة الثابتة. حقيقة الوحدانية التي ينطق بها كتاب الوجود، وتوجبها مصلحة المشركين أنفسهم، ويلزمهم بها النظر إلى مآلهم في الدنيا والآخرة.
وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة؛ وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن، فإن النص أوسع مدلولاً وأطول أمداً من ذلك الواقع التاريخي. فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحداً في أي زمان وفي أي مكان؟ وكل أحد- كائنا من كان- لا يستجيب بشيء لمن يدعوه، ولا يملك أن يستجيب. وليس هناك إلا الله فعال لما يريد.. إن الشرك ليس مقصوراً على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى.
فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان، أو ذوي جاه، أو ذوي مال، ويرجون فيهم، ويتوجهون إليهم بالدعاء. وكلهم أعجز من أن يستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية. وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. ودعاؤهم شرك. والرجاء فيهم شرك.. والخوف منهم شرك. ولكنه شرك خفي يزاوله الكثيرون، وهم لا يشعرون.
ثم يمضي السياق يتحدث عن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من الحق. بعدما تحدث عن واقعهم وتهافت عقيدة الشرك. ويقرر قضية الوحي كما قرر قضية التوحيد:
{وإذ تتلى عليم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم: هذا سحر مبين. أم يقولون: افتراه؟ قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً. هو أعلم بما تفيضون فيه.. كفى به شهيداً بيني وبينكم، وهو الغفور الرحيم. قل: ما كنت بدعاً من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ، وما أنا إلا نذير مبين. قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين. وقال الذين كفروا للذين آمنوا: لو كان خيراً ما سبقونا إليه. وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم. ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}..
يبدأ الحديث عن قضية الوحي بترذيل مقولتهم عنه، واستنكار استقبالهم له، وهو آيات {بينات} لا لبس فيها ولا غموض، ولا شبهة فيها ولا ريبة. ثم إنه {الحق} الذي لا مرية فيه. وهم يقولون لتلك الآيات ولهذا الحق {هذا سحر مبين}.. وشتان بين الحق والسحر. وهما لا يختلطان ولا يشتبهان.
وهكذا يبدأ الهجوم منذ البدء على تقولهم الظالم وادعائهم القبيح، الذي لا يستند إلى شبهة ولا ظل من دليل.
ثم يرتقي في إنكار مقولتهم الأخرى.. {افتراه}.. فلا يسوقها في صيغة الخبر بل في صيغة الاستفهام. كأن هذا القول لا يمكن أن يقال، وبعيد أن يقال:
{أم يقولون افتراه؟}..
فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال؟!
ويلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بأدب النبوة، الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه، وشعوره بوظيفته، وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله:
{قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً. هو أعلم بما تفيضون فيه. كفى به شهيداً بيني وبينكم، وهو الغفور الرحيم}..
قل لهم: كيف أفتريه؟ ولحساب من أفتريه؟ ولأي هدف أفتريه؟ أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني؟ ولكن: {إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً}.. وهو آخذني بما افتريت. فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني.
وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي، وأضعف من أن تنصروني؟!
وهو الرد اللائق بنبي، يتلقى من ربه، ولا يرى في الوجود غيره، ولا يعرف قوة غير قوته، وهو رد كذلك منطقي يدركه المخاطبون به لو حكموا عقولهم فيه. يجيبهم به، ثم يترك أمرهم لله: {هو أعلم بما تفيضون فيه}.. من القول والفعل. وهو يجزيكم بما يعلمه من أمركم. {كفى به شهيداً بيني وبينكم}.. يشهد ويقضي، وفي شهادته الكفاية وفي قضائه. {وهو الغفور الرحيم}.. وقد يرأف بكم، فيهديكم رحمة منه، ويغفر لكم ما كان من ضلالكم قبل الهدى والإيمان..
رد فيه تحذير وترهيب. وفيه إطماع وتحضيض. يأخذ على القلب مسالكه، ويلمس أوتاره. ويشعر السامعين أن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة، وادعاءاتهم العابثة. وأنه في ضمير الداعية أكبر وأعمق مما يشعرون.
ويمضي معهم في مناقشة القضية- قضية الوحي- من زاوية أخرى واقعية مشهودة. فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء؟ وليس في الأمر غريب ولا عجيب:
{قل: ما كنتم بدعاً من الرسل. وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ، وما أنا إلا نذير مبين}..
إنه صلى الله عليه وسلم ليس أول رسول. فقد سبقته الرسل. وأمره كأمرهم. وما كان بدعاً من الرسل. بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه، فيصدع بما يؤمر. هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها.. والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلاً، ولا يطلب لنفسه اختصاصاً. إنما يمضي في سبيله، يبلغ رسالة ربه، حسبما أوحى بها إليه: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ}.. فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها. إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه. واثقاً بربه، مستسلماً لإرادته، مطيعاً لتوجيهه، يضع خطاه حيث قادها الله. والغيب أمامه مجهول، سره عند ربه. وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له. فهو واقف أبداً عند حدوده وحدود وظيفته: {وما أنا إلا نذير مبين}..
وإنه لأدب الواصلين، وإنها لطمأنينة العارفين، يتأسون فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فيمضون في دعوتهم لله. لا لأنهم يعرفون مآلها، أو يعلمون مستقبلها. أو يملكون فيها قليلاً أو كثيراً. ولكن لأن هذا واجبهم وكفى. وما يطلبون من ربهم برهاناً فبرهانهم في قلوبهم. وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم. وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق.
ثم يواجههم بشاهد قريب، لشهادته قيمتها، لأنه من أهل الكتاب الذين يعرفون طبيعة التنزيل:
{قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين}..
وقد تكون هذه واقعة حال، ويكون واحد أو أكثر من بني إسرائيل، عرف أن طبيعة هذا القرآن هي طبيعة الكتب المنزلة من عند الله، بحكم معرفته لطبيعة التوراة. فآمن. وقد وردت روايات أنها نزلت في عبد الله ابن سلام. لولا أن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة. وقد ورد كذلك أن هذه الآية مدنية توكيداً لنزولها في شأن عبد الله- رضي الله عنه-. كما ورد أنها مكية وأنها لم تنزل فيه.
وقد تكون إشارة إلى واقعة أخرى في مكة نفسها. فقد آمن بعض أهل الكتاب على قلة في العهد المكي. وكان لإيمانهم، وهم أهل كتاب، قيمته وحجيته في وسط المشركين الأميين. ومن ثم نوه به القرآن في مواضع متعددة، وواجه به المشركين الذين كانوا يكذبون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وهذا الأسلوب في الجدل: {قل أرأيتم إن كان من عند الله... الخ} يراد به زعزعة الإصرار والعناد في نفوس أهل مكة، وإثارة التخوف في نفوسهم والتحرج من المضي في التكذيب. ما دام أن هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله حقاً كما يقول محمد. وفي هذه الحالة تكون العاقبة وخيمة. فأولى لهم أن يحتاطوا لهذا الفرض، الذي قد يصح، فيحل بهم كل ما ينذرهم به. ومن الأحوط إذن أن يتريثوا في التكذيب، وأن يتدبروا الأمر في حرص وفي حذر، قبل التعرض لتلك العاقبة الوخيمة. وبخاصة إذا أضيف إلى ذلك الاحتمال أن واحداً أو أكثر من أهل الكتاب يشهد بأن من طبيعة الكتاب قبله؛ ويتبع هذا التذوق بالإيمان. بينما هم الذين جاء القرآن لهم، وبلغتهم، وعلى لسان رجل منهم، يستكبرون ويكفرون.. وهو ظلم بين وتجاوز للحق صارخ، يستحق النقمة من الله وإحباط الأعمال: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}..
ولقد سلك القرآن شتى السبل، واتبع شتى الأساليب، ليواجه شكوك القلب البشري، وانحرافاته وآفاته؛ ويأخذ عليها المسالك؛ ويعالجها بكل أسلوب. وفي أساليب القرآن المتنوعة زاد للدعوة والدعاة إلى هذا الدين.. ومع اليقين الجازم بأن هذا القرآن من عند الله فقد استخدم أسلوب التشكيك لا أسلوب الجزم للغرض الذي أسلفنا. وهو واحد من أساليب الإقناع في بعض الأحوال..
وبعد ذلك يمضي في استعراض مقولات المشركين عن هذا القرآن وعن هذا الدين؛ فيحكي اعتذارهم عن التكذيب به والإعراض عنه، اعتذار المستكبر المتعالي على المؤمنين:
{وقال الذين كفروا للذين آمنوا: لو كان خيراً ما سبقونا إليه.
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم}..
ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر. فكان هذا مغمزاً في نظر الكبراء المستكبرين. وراحوا يقولون: لو كان هذا الدين خيراً ما كان هؤلاء أعرف منا به، ولا أسبق منا إليه فنحن، في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا، أعرف بالخير من هؤلاء!
والأمر ليس كذلك. فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه. والخير الذي يحتويه، إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد- كما كانوا يقولون- وفقدان المراكز الاجتماعية، والمنافع الاقتصادية، كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد وما كان عليه الآباء والأجداد. فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف.
إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق، وأن يستمعوا لصوت الفطرة، وأن يسلموا بالحجة. وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض، واختلاق المعاذير، والادعاء بالباطل على الحق وأهله. فهم لا يسلمون أبداً أنهم مخطئون؛ وهم يجعلون من ذواتهم محوراً للحياة كلها يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة:
{وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم}..
طبعاً! فلا بد من عيب في الحق ما داموا لم يهتدوا به، ولم يذعنوا له. لا بد من عيب في الحق لأنهم هم لا يجوز أن يخطئوا. وهم في نظر أنفسهم، أو فيما يريدون أن يوحوا به للجماهير، مقدسون معصومون لا يخطئون!
ويختم هذه الجولة في قضية الوحي والرسالة بالإشارة إلى كتاب موسى، وتصديق هذا القرآن له- كما سبقت الإشارة في شهادة الشاهد من بني إسرائيل:
{ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً، لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}.
وقد كرر القرآن الإشارة إلى الصلة بين القرآن والكتب قبله، وبخاصة كتاب موسى، باعتبار أن كتاب عيسى تكملة وامتداد له. وأصل التشريع والعقيدة في التوراة. ومن ثم سمى كتاب موسى {إماماً} ووصفه بأنه رحمة. وكل رسالة السماء رحمة للأرض ومن في الأرض، بكل معاني الرحمة في الدنيا والآخرة.. {وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً}.. مصدق للأصل الأول الذي تقوم عليه الديانات كلها؛ وللمنهج الإلهي الذي تسلكه الديانات جميعها؛ وللاتجاه الأصيل الذي توجه البشرية إليه، لتتصل بربها الواحد الكريم.
والإشارة إلى عروبته للامتنان على العرب، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، ورعايته لهم، وعنايته بهم؛ ومظهرها اختيارهم لهذه الرسالة، واختيار لغتهم لتتضمن هذا القرآن العظيم.
ثم بيان لطبيعة الرسالة، ووظيفتها:
{لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}..
وفي نهاية هذا الشوط الأول يصور له جزاء المحسنين، ويفسر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم، بشرطها، وهو الاعتراف بربوبية الله وحده والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته:
{إن الذين قالوا: ربنا الله}.


هذا الشوط يسير مع الفطرة في استقامتها وفي انحرافها، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف. ويبدأ بالوصية بالوالدين. وكثيراً ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث. ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية، وأولاها بالرعاية والتشريف. وفي هذا الاقتران دلالتان: أولاهما هي هذه. والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة، ثم تليها آصره الدم في أوثق صورها.
وفي هذا الشوط نموذجان من الفطرة: في النموذج الأول تلتقي آصرة الإيمان وآصرة الوالدين في طريقهما المستقيم المهتدي الواصل إلى الله. وفي الثاني تفترق آصرة النسب عن آصرة الإيمان، فلا تلتقيان. والنموذج الأول مصيره الجنة ونصيبه البشرى. والنموذج الثاني مصيره النار ونصيبه استحقاق العذاب. وبهذه المناسبة يعرض صورة العذاب في مشهد من مشاهد القيامة، يصور عاقبة الفسوق والاستكبار.
{ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً}..
فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائم على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنساناً. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك. وهي وصية صادرة من خالق الإنسان، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضاً. فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها. والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس. فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان.
وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الوصية بالإحسان إلى الوالدين. ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة، ولمناسبة حالات معينة. ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير. وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيراً ما تصل إلى حد الموت- فضلاً على الألم- بدون تردد، ودون انتظار عوض، ودون منّ ولا رغبة حتى في الشكران! أما الجيل الناشئ فقلما يتلفت إلى الخلف. قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني. لأنه بدوره مندفع إلى الأمام، يطلب جيلاً ناشئاً منه يضحي له بدوره ويرعاه! وهكذا تمضي الحياة!
والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء. والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذاً غير طبيعي في كثير من جوانب حياته- مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة- وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة، هو شعور الحب.
فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته. ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد. وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا. إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال، يتحاقدون فيما بينهم، على الأم الصناعية المشتركة، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبداً. كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية. وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي. فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال. فتنشأ شخصياتهم مخلخلة، ويحرمون ثبات الشخصية.. والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم.
ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة، والتي لا يجزيها أبداً إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين:
{حملته أمه كرهاً، ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}..
وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: {حملته أمه كرهاً، ووضعته كرهاً}.. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه!
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة..
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة. تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائماً في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم. دائمة الامتصاص لمادة الحياة. والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دماً نقياً غنياً لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير. ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير! وهذا كله قليل من كثير!
ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة. ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش، وتمتد.. بينما هي تذوي وتموت!
ثم الرضاع والرعاية. حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية. وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبداً ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو.
فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد!
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية، مهما يفعل. وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أديتُ حقها؟ فأجابه: «لا، ولا بزفرة واحدة».
ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم، إلى مرحلة النضج والرشد، ومع استقامة الفطرة، واهتداء القلب:
{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديَّ، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك، وإني من المسلمين}..
وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين. والأربعون في غاية النضج والرشد، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء. وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة. وتتدبر المصير والمآل.
ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة، وهي في مفرق الطريق، بين شطر من العمر ولى، وشطر يكاد آخره يتبدى. وهي تتوجه إلى الله:
{رب أوزعني أن أشكرك نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديّ}..
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: {أوزعني}.. لينهض بواجب الشكر؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير.
{وأن أعمل صالحاً ترضاه}..
وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه.
{وأصلح لي في ذريتي}..
وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر. وأروح لقلبه من كل زينة الحياة. والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله.
وشفاعته إلى ربه. شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام:
{إني تبت إليك وإني من المسلمين}..
ذلك شأن العبد الصالح، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه. فأما شأن ربه معه، فقد أفصح عنه هذا القرآن:
{أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}..
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال. والسيئات مغفورة متجاوزة عنها. والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء.
ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا. ولن يخلف الله وعده.. وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام.
فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال:
{والذي قال لوالديه: أف لكما! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟}..
فالوالدان مؤمنان. والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: {أف لكما!}.. ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: {أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟}.. أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد.. والساعة مقدرة إلى أجلها. والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا. ولم يقل أحد إنه تجزئة. يبعث جيل مضى في عهد جيل يأتي. فليست لعبة وليست عبثاً. إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها!
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما؛ ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول؛ ويهتفان به: {وهما يستغيثان الله. ويلك آمن. إن وعد الله حق}.. ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان. بينما هو يصر على كفره، ويلج في جحوده: {فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين}..
هنا يعاجله الله بمصيره المحتوم:
{أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس؛ إنهم كانوا خاسرين}..
والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين. وهم كثير. خلت بهم القرون. من الجن والإنس. حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف. {إنهم كانوا خاسرين}.. وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟
وبعد بيان العاقبة والجزاء إجمالاً للمهتدين والضالين، يصور دقة الحساب والتقدير لكل فرد من هؤلاء وهؤلاءعلى حدة:
{ولكل درجات مما عملوا، وليوفيهم أعمالهم، وهم لا يظلمون}..
فلكل فرد درجته، ولكل فرد عمله، في حدود ذلك الإجمال في جزاء كل فريق.
وبعد، فهذان النموذجان عامان في الناس، ولكن مجيئهما في هذا الأسلوب، الذي يكاد يحدد شخصين بذواتهما أوقع وأشد إحياء للمثل كأنه واقع.
ولقد وردت روايات أن كلاً منهما يعني إنساناً بعينه. ولكن لم يصح شيء من هذه الروايات. والأولى اعتبارهما واردين مورد المثل والنموذج. يدل على هذا الاعتبار صيغة التعقيب على كل نموذج. فالتعقيب على الأول: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.. والتعقيب على الثاني: {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}.. ثم التعقيب العام: {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم، وهم لا يظلمون}.. وكلها توحي بأن المقصود هو النموذج المكرر من هؤلاء وهؤلاء.
ثم يقفهم وجهاً لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون:
{ويوم يعرض الذين كفروا على النار}.


وهذا الشوط جولة في مجال آخر، تخدم القضية التي تعالجها السورة، وتأخذ القلب البشري من جانب غير الجوانب التي عالجها الشوطان الأولان.. جولة في مصرع عاد ومصارع القرى غيرها حول مكة. وقد وقفوا من رسولهم وأخيهم هود- عليه السلام- موقف المشركين من رسولهم وأخيهم محمد صلى الله عليه وسلم واعترضوا اعتراضاتهم، وأجابهم نبيهم بما يليق به من أدب النبوة في حدود بشريته وحدود وظيفته. ثم أخذهم ما أخذهم من العذاب المدمر، حين لم يسمعوا النذير. فلم تغن عنهم قوتهم- وكانوا أقوى- ولم يغن عنهم ثراؤهم- وكانوا أغنى- ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم- وكانوا أذكياء- ولم تغن عنهم آلهتم التي اتخذوها تقرباً- بزعمهم- إلى الله.
وكذلك يقف المشركين في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم؛ فيقفهم أمام مصيرهم هم أنفسهم. ثم أمام الخط الثابت المطرد المتصل. خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغير وخط السنة الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل. وتبدو شجرة العقيدة عميقة الجذور، ممتدة الفروع ضاربة في أعماق الزمان؛ واحدة على اختلاف القرون واختلاف المكان.
{واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف- وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه- ألا تعبدوا إلا الله. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}..
وأخو عاد هو هود- عليه السلام- يذكره القرآن هنا بصفته. صفة الأخوة لقومه. ليصور صلة الود بينه وبينهم، وصلة القرابة التي كانت كفيلة بأن تعطفهم إلى دعوته، وتحسن ظنهم بها وبه. وهي ذات الصلة بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يقفون منه موقف الملاحاة والخصومة.
والأحقاف جمع حقف. وهو الكثيب المرتفع من الرمال. وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة- يقال في حضرموت.
والله- سبحانه- يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر أخا عاد وإنذاره لقومه بالأحقاف. يذكره ليتأسى بأخ له من الرسل لقي مثلما يلقى من إعراض قومه وهو أخوهم. ويذكره ليذكر المشركين في مكة بمصير الغابرين من زملائهم وأمثالهم، على مقربة منهم ومن حولهم.
وقد أنذر أخو عاد قومه، ولم يكن أول نذير لقومه. فقد سبقته الرسل إلى أقوامهم..
{وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه}..
قريباً منه وبعيداً عنه في الزمان وفي المكان. فالنذارة متصلة، وسلسلة الرسالة ممتدة. والأمر ليس بدعاً ولا غريباً. فهو معهود مألوف.
أنذرهم- ما أنذر به كل رسول قومه-: {ألا تعبدوا إلا الله. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}.. وعبادة الله وحده عقيدة في الضمير ومنهج في الحياة؛ والمخالفة عنها تنتهي إلى العذاب العظيم في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما على السواء.
والإشارة إلى يوم {عذاب يوم عظيم}.. تعني حين تطلق يوم القيامة وهو أشد وأعظم.
فماذا كان جواب قومه على التوجيه إلى الله، والإنذار بعذابه؟
{قالوا: أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين!}..
سوء الظن وعدم الفهم، والتحدي للنذير، واستعجال العذاب الذي ينذرهم به، والاستهزاء والتكذيب. وإصرار على الباطل واعتزاز!
فأما هود النبي فيتلقى هذا كله في أدب النبي، وفي تجرده من كل ادعاء، وفي الوقوف عند حده لا يتعداه:
{قال: إنما العلم عند الله. وأبلغكم ما أرسلت به. ولكني أراكم قوماً تجهلون}..
إنما أنذركم بالعذاب كما كلفت أن أنذركم. وليست أعلم متى يحين موعده، ولا كيف يكون شكله. فعلم ذلك عند الله. وإنما أنا مبلغ عن الله. لا أدعي علماً ولا قدرة مع الله.. {ولكني أراكم قوماً تجهلون} وتحمقون. وأية حماقة وأي جهل أشد من استقبال النذير الناصح والأخ القريب بمثل هذا التحدي والتكذيب؟
ويجمل السياق هنا ما كان بين هود وقومه من جدل طويل، ليمضي إلى النهاية المقصودة أصلاً في هذا المقام؛ رداً على التحدي والاستعجال.
{فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا: هذا عارض ممطرنا. بل هو ما استعجلتم به: ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. كذلك نجزي القوم المجرمين}..
وتقول الروايات: إنه أصاب القوم حر شديد، واحتبس عنهم المطر، ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف. ثم ساق الله إليهم سحابة، ففرحوا بها فرحاً شديداً، وخرجوا يستقبلونها في الأودية، وهم يحسبون فيها الماء: {قالوا هذا عارض ممطرنا}..
وجاءهم الرد بلسان الواقع: {بل هو ما استعجلتم به: ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها}.. وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى. كما جاء في صفتها: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير: {تدمر كل شيء بأمر ربها} وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس. فهذا الوجود حي. وكل قوة من قواه واعية. وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه. والإنسان أحد هذه القوى. وحين يؤمن حق الإيمان، ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة، يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله، وأن يتجاوب معها، وأن تتجاوب معه، تجاوب الأحياء المدركة، بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك. ففي كل شيء روح وحياة، ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق. والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار، تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار.
وقد أدت الريح ما أمرت به، فدمرت كل شيء {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم}.
أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى. إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة، لا ديار فيها ولا نافخ نار.. {كذلك نجزي القوم المجرمين}.. سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين.
وعلى مشهد الدمار والخراب يلتفت إلى أمثالهم الحاضرين، يلمس قلوبهم بما ترتعش منه القلوب:
{ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه. وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة. فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. إذ كانوا يجحدون بآيات الله. وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}..
هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير. مكناهم فيما لم نمكنكم فيه.. إجمالاً.. من القوة والمال والعلم والمتاع. وآتيناهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة- والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل. وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره- ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء. إذ أنهم عطلوها وحجبوها {إذ كانوا يجحدون بآيات الله}.. والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب، ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك. {وحاق به ما كانوا به يستهزئون}.. من العذاب والبلاء..
والعبرة التي يفيدها كل ذي سمع وبصر وقلب، ألا يغتر ذو قوة بقوته، ولا ذو مال بماله، ولا ذو علم بعلمه. فهذه قوة من قوى الكون تسلط على أصحاب القوة والمال والعلم والمتاع، فتدمر كل شيء، وتتركهم {لا يرى إلا مساكنهم} حين يأخذهم الله بسنته التي يأخذ بها المجرمين.
والريح قوة دائبة العمل، وفق النظام الكوني الذي قدره الله، وهو يسلطها حين يسلطها للتدمير وهي ماضية في طريقها الكوني، تعمل وفق الناموس المرسوم. فلا حاجة لخرق النواميس الكونية- كما يعترض المعترضون واهمين- فصاحب الناموس المرسوم هو صاحب القدر المعلوم. وكل حادث وكل حركة، وكل اتجاه، وكل شخص، وكل شيء، محسوب حسابه، داخل في تصميم الناموس.
والريح كغيرها من القوى الكونية مسخرة بأمر ربها، ماضية تؤدي ما قدره لها في نطاق الناموس المرسوم لها وللوجود كله. ومثلها قوة البشر المسخرة لما يريده الله بها. المسخر لها من قوى الكون ما أراد الله تسخيره لها. وحين يتحرك البشر فإنما يؤدون دورهم في هذا الوجود، ليتم ما أراده الله بهم وفق ما يريد. وحرية إرادتهم في الحركة والاختيار جزء من الناموس الكلي ينتهي إلى التناسق الكوني العام. وكل شيء مقدر تقديراً لا يناله نقص ولا اضطراب.
ويختم هذا الشوط بالعبرة الكلية لمصارع من حولهم من القرى من عاد وغير عاد:
{ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى، وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون. فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم. وذلك إفكهم وما كانوا يفترون}..
وقد أهلك الله القرى التي كذبت رسلها في الجزيرة.

1 | 2